كتاب أخبارنا

رمضان والذاكرة…!

 

كما هي عادة البشر دائما في الحياة..لهاث وجري مستمرين..نعرف وجهتنا أحيانا وأحيانا نتوهم أننا نعرف وأحيانا ثالثة لانعرف حقيقة إلى أين نحن سائرون!!

في خضم كل ذلك تفاجئنا المناسبات بأنواعها الفضيلة والحزينة والمفرحة..فتحدث داخلنا نوع من”الفرملة”وتجعلنا نعيد كثير من حساباتنا على كل الأصعدة…

أين ربحنا وأين خسرنا.. أين أخطأنا وأين أصبنا..أين الأشياء الممكن تعويضها وأين تلك التي فات الأوان لتعويضها!!

نتفحص الوجوه التي تجري هي الأخرى معنا في زحمة الحياة من الأهل والأقارب والأصحاب والأبعدين والأقربين فنجد أن بعضهم لم يعد موجودا بيننا منذ فترة طويلة والبعض منذ فترة متوسطة والبعض الآخر منذ عام وآخرين لتوهم رحلوا إلى الأبد عنا.

لقد صاروا جزءً من مخزون الذاكرة الملازم لنا أبد الدهر الذي يحمل كمية كبيرة من الأحزان على فراقهم ومن تلك النتف من لحظات السعادة والفرح والحبور والأنس التي كانت تجمعنا وإياهم.

المناسبات بأنواعها ومنها مناسبة الشهر الفضيل ستأتي تترى وكما حدث ويحدث في كل عصر ومصر وهي ثابته ونحن زائلون عاجلا أم آجلا..فاقدين أحيانا ومفقودين أحيانا أخرى..

فهل يجب أن تجعل منا هذه الحقيقة المره أناس بلا أمل وبلا رجاء وبلا عزيمة وصبر وقدرة على العيش والتأقلم مع صوادف الدهر؟!!

هل يجب أن تجعل منا أناس بلا هدف في الحياة؟!!..أناس أسرى للأحزان لايتجاوزونها ولا يستطيعون التخلص منها والإنطلاق إلى آفاق أرحب في عالم الدنيا الفسيح؟!!

أعلل النفس بالآمال أرغبها…
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل…

الإجابة بلا قاطعة حاسمة…ومثلما يقال إن الحكم على الأشياء فرع من تصورها وبالتالي فحديثنا النظري الذي نكرره دائماً عن إيماننا بالقضاء والقدر خيره وشره يجب أن يكون موضع تطبيق وتقيد عملي مع ما يرافق ذلك من صعوبة وآلام على النفس البشرية…اصبر على حلو الزمان ومرّه..واعلم بأن الله بالغ أمره!!

كل إنسان له ذكراه الخاصة مع رمضان ومع الأعياد وما أكثر ما نسمع عبارات”رمضان زمان”و”أعياد زمان”و”زمن الطيبين”الخ.

وفي ظني أن هذا الحنين المتأصل في ذواتنا للماضي أو مايعرف ب”النوستالجيا”هو الذي يعيق أحاسيسنا من أن تشعر الشعور ذاته تجاه المناسبات الحالية بأنواعها بنفس القدر الذي كنا نشعره حيال”رمضان الماضي”و”أعياد الماضي”.

إن طول الفترة الزمنية وتعاقب الأيام والليالي ليست هي التي أعطت هذه الميزة لتلك المناسبات الماضية ووضعت لها المكان الذي لها الآن في نفوسنا بل أعتقد أن سبب هذه المكانة التي نحملها لما يسمى”رمضان الماضي”و”أعياد الماضي”اضافة لأسباب أخرى،هو أولئك الأحبة والأصحاب والأهل الذين كانوا معنا حينها في تلك المناسبات الفضيلة والمفرحة ولكنهم لم يعودوا معنا الآن!!

لقد فقدناهم إلى الأبد وفقدنا إياهم هو الذي جعل لذلك الزمن هذه القدسية في نفوسنا وأعاق نوعا ما أحاسيسنا من أن تستمتع كما يجب بهذه المناسبات مع العلم أن المناسبات هي ذاتها ماضيا وحاضرا.

وبالحديث عن”رمضان الماضي” يمكنني أن”أنخش”من الذاكرة بعض الصور المتداخلة غير المرتبة التي تعرضها الذاكرة عبر شريطها كل عام عندما يحل علينا شهر رمضان الكريم.

تلك الصور تأتي على النحو التالي:-

جلسة للجميع على قطع بسيطة من الفرش ليست كثيرة تم رصها بطريقة منظمة على أرض منبسطة في وسط شعب الرفزه(الريف بلغة البرجوازيين?!!)وهو أحد شعاب وادي حبونا التاريخي العريق.

غرف شعبية متناثرة كيفما اتفق،بينها مساحات كبيرة…تحيط بك أشجار العضاه من اتجاهات عده(والعضاه كلمة عربية فصيحة،ينطقها أهلنا على السليقة ولا يعلمون أنها لغة أهلهم الأوائل الفصحى).

الجبال تحيط بك من ثلاث جهات..وتستطيع أن تمد نظرك حيثما تشاء وأينما تشاء دون أن يعيقه عائق…الإبل والغنم ليست بعيدة عنك تنظر إليها وتنظر إليك..أحيانا(تستن)الإبل(وهذه أيضاً فصيحة ينطقها أهلنا بالسليقة إلى الآن)من حولك في اتجاهات عده،وتراقب عراكها مع بعضها البعض فيما الجميع يستعد للإفطار.

شعور طاغٍ بالألفة والطمأنينة والكل ينتظر لحظة الأذان عبر حنجرة الوالد العظيم-رحمه الله رحمة واسعة-متزامنا مع المؤذن(جمعان بني هميم)رحمه الله الذي يبعد عنا كثيراً جدا ويحجبنا عن مكان سكنه في شعب(السرح)الكثير من الجبال والآكام والأشجار الكثيفة،ولكن نقاء الهواء والأجواء والهدوء الذي هو إحدى خصائص الطبيعة يجعلنا نسمع أذانه بكل وضوح وكأنه أقرب الجيران!!!

تحضر”المحلبية”و”المكرونية”و”الشوربة”والعصير”الأصفر”و”الأحمر”والملاعق التي تحضر كل عام فقط في رمضان وتعود إلى أدراجها سالمة حتى العام المقبل..يستخدمها الكبير والصغير ولا أعلم إلى الآن لماذا كانت تحضر في رمضان فقط ويتصالح معها الجميع وتنبذ في بقية أشهر السنة الأخرى؟!!

لقد تغير الحال الآن وفقدت الأشياء قيمتها!!..لاطعم الآن يماثل ذلك الطعم لتلك الأطباق في ذلك الحين على الرغم من أنها هي ذاتها التي لدينا الآن بل زيد عليها مثنى وثلاث ورباع!!

بعد الإفطار وصلاة المغرب يتحلق الجميع حول المذياع وموعد يتحراه الكل بشوق مع”أم حديجان وأبو حديجان”وصمت مطبق حتى تنتهي الحلقة..ثم مناقشات وضحك وتعجب من مضامين تلك الحلقات يشترك فيه الجميع بما فيهم جارتنا(رفعه)أطال الله في عمرها.

بقيت لوحدها حتى الآن مع جيران آخرين في ذلك الشعب الأثير على النفس وكبرت في السن وأعلم كم هي عزيزة تلك الأيام الخوالي لديها وكم تتذكرها بكل حزن وشوق عندما نزورها بين فترة وأخرى!

أما نحن فقد إنخرطنا للأسف،منذ زمن بعيد،بقضنا وقضيضنا-كما الكثيرين-في ثقافة الكتل الإسمنتية الخانقة والضوضاء والحياة العصرية السهلة التي سلبت منا الكثير بينما نتوهم أنها أعطتنا الكثير…هذا غيض من فيض من صور”رمضان الماضي”!

كل عام وكل رمضان والجميع بخير وسنردد دائماً عبارتنا الشهيرة الدارجة “جعله يسقى”للتخفيف من وطأة وثقل هذا التغير الكبير مدفوع الثمن سلفا الذي حدث لحياتنا!!!!

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى