كتاب أخبارنا

هذا الزمن اسمه”مفشل”..!!

في ذاك الزمن المرير،الشحيح،سمعت عن أن أخيها الجواد، الكريم،الشجاع الذي تحبه حباً جماً قد أصيب بداء الجدري الفتاك الذي قلما يفلت من براثنه أحد وبخاصة في تلك الحقب الصعبة التي لم يكن الناس يجدوا قوت يومهم فضلاً عن أن يجدوا الأدوية والعقاقير الناجعة.

وضعت ابنتها الرضيعة في(الميزب)وحملتها على ظهرها المُتعَب الذي أنهكه العمل اليومي الشاق المتمثل في رعي الأغنام وسقايتها وحليبها وتفقدها وحراستها من السباع الضارية،وقررت أن تذهب لزيارة أخيها المجدور الذي لم تره منذ زمن، وكان وضعها آنذاك بالغ الصعوبة،مسؤوليات يومية مرهقة لاتنقطع وشوق لرؤية أخيها المريض،وحرج لتأخرها في زيارته،وضيق ذات اليد،كل ذلك اجتمع على رأس تلك الأصيلة،الطيبه،الصلبة صلابة جبال نجران الشم، الشامخة شموخ الحرائر اللواتي يملكن عزيمة لاتلين.

وكعادة نساء ذلك الزمن ورجاله الذين لايتوانوا عن صلة رحمهم مهما كانت الظروف قاهرة،ويجودون بما في أيديهم بالرغم من ضيق الحال،ويؤثرون على انفسهم الشح ولو كان بهم خصاصة،أخذت معها خيرة غنمها وأطيبها(كرامة)لأخيها الذي يئن من ألم المرض،وخذلان الصحب،وتبدل الأحوال،وليس أشد على نفس الأبي من الشعور بتخلي الذين كان يعدهم سندًا له في أوقات الشدائد!!

مع القليل من الماء والطحين حملت تلك المرأة الصبورة،المكافحة،طفلتها الرضيعة على ظهرها ورحلت من مكانها البعيد حيث تقطن تتبعها شاتها متجهة للمكان المعزول الذي وضع فيه أخيها بعيداً عن الناس حتى لا تصيبهم عدوى الجدري.

واصلت رحلتها بهمة عالية يحدوها الأمل برؤية اخيها وإكرامه والحديث معه سويعات قليلة قبل موته المحتوم،ولما داهمها الليل بعد طول مسير،وحرصاً على طفلتها التي تواصل بكاءها نتيجة الجوع وشدة البرد والوضع غير المريح،حطت تلك النبيلة رحالها،وعزمت على قضاء ليلتها في العراء!!

ولكن هل ستهنأ تلك المسكينة-اجزل الله لها الثواب ورحمها رحمة واسعة-قليلاً تلك الليلة حتى يحين الصباح؟!!

عندما حاولت أن تعد لنفسها طعاماً لتخفف به وطأة جوعها في تلك الليلة/الزمهرير لم تجد(يا لحظها العاثر!!)معها عود ثقاب لتوقد به نارها…جالت بنظرها في كل اتجاه علها تجد من يساعدها،وبعد مضي وقت كأنه دهر،لمحت وميضاً لَيس ببعيد منها،وذهبت تجاهه،ثم ادركت أن ذلك الوميض وميض نار لقافلة لتوها حطت رحالها.

اقتربت من اصحاب النار ونادت عليهم وأخبرتهم بحاجتها لعود ثقاب،فتلكأ احدهم عليه من الله مايستحق،ربما لبخله،أو لأهمية عيدان الثقاب آنذاك وقلتها،وحاول أن لا يلبي مطلبها،ولكن أحد رفاقه نهره وطلب منه اعطائها ما ارادت،وسألها الأخير عن قومها وأخبرتهم بأنها(ابنة فلان)فشعروا بالحرج الشديد،بل لابد أنهم شعروا بالعار،وما كان منهم-حتى يواروا سوءتهم-إلا أن امتدحوا ابيها الذي”يطعم الجائع ويؤمن الخائف”على قلة مالديه في تلك الأزمنة المؤلمة!!

عادت ادراجها لمكانها واعدت طعامها القليل وأخذت نصيبها منه ثم نامت منهكة،وحيده،متألمة،محتضنة ابنتها الرضيعة،وشاتها ملتصقة بظهرها تتبادلان الدفيء وكأن شاتها تقول لها في تلك الليلة شديدة البرودة:”أنا أفضل صديق لك من كل البشر”!!

عندما انبلج نور الفجر واصلت مسيرها حتى وصلت أخيرًا لأخيها،سلمت عليه وسلم عليها بحرارة ولم تخشى حينها العدوى،وتبادلا الحديث المفعم بالذكريات والأيام الخوالي،وطلبت منه-محرجة-أن يعذرها على تأخرها في القيام بواجب الزيارة،وشرحت ظروفها مع الحياة ومرارتها،فخفف عنها ذلك الأخ الشهم-رحمه الله رحمة واسعة-وهون عليها،وطلب منها أن لاتشعر بالضيق أو التقصير أبداً،فهي أخته الغالية الأصيلة التي خبرها وعرفها،ثم جر زفرة خرجت عبرها كل آلام الأرض وخذلانها وغدرها،وقال لها تلك العبارة التي التصقت بذاكرتها الى الأبد:” يافلانه هذا الزمن اللي حن فيه اسمه الزمن المفشل”،قصد أن زمنه آنذاك وهو على تلك الحال،وهو أحد كبار قومه الشجعان،كشف له معادن الرجال والنَّاس والأصدقاء،وكأني به يبحث عن صديق تجسد فيه قول الشاعرالبارودي :-

“لَيْسَ الصَّدِيقُ الَّذِي تَعْلُو مَنَاسِبُهُ
بلِ الصديقُ الذي تزكو شمائلهُ
إنْ رابكَ الدهرُ لمْ تفشلْ عزائمهُ
أَوْ نَابَكَ الْهَمُّ لَمْ تَفْتُرْ وَسائِلُهُ
يَرْعَاكَ فِي حَالَتَيْ بُعْدٍ وَمَقْرَبَة
وَلاَ تغبكَ منْ خيرٍ فواضلهُ”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى