كتاب أخبارنا

من شعاب نجران لنهر تشيكوبي .. “رحلت الأحلام لكن الأبطال استشهدوا واقفين”..!

تحل الذكرى الثانية لاستشهاد البطلين(جاسر وذيب)رحمهما الله في الولايات المتحدة الأمريكية،وأقل ما يمكن أن يقدم لهما ولبقية شهدائنا الأبرار هو الدعاء لهم بالرحمة والمغفرة والتذكير بهم وبأفعالهم الخالدة وبسيرهم العطرة وتضحياتهم بأنفسهم في سبيل الأرض والعرض والإنسانية والمباديء والمثل العليا.

وهنا نعيد نشر هذا المقال الذي كتب العام ٢٠١٨م بمناسبة استشهادهما-رحمهما الله-على ضفاف نهر(تشيكوبي).

من شعاب نجران لنهر تشيكوبي ..

“رحلت الأحلام لكن الأبطال استشهدوا واقفين”!

من كل حدب وصوب،من مناطق المملكة كافة،ومن ضمنها نجران،التاريخ،العزيزة،الصامده،الصابره،زحفت الأرواح،تحدوها الآمال الكبيرة،في تلك البلاد البعيده،وفي معظم ارجاء المعموره،بحثا عن تحقيق الطموحات العظام،ومعانقة الأحلام،للظفر بغدٍ افضل،والعيش برخاء وازدهار وسلام وأمن في وطنهم الذي يستحقهم ويستحقونه.

من عاد حيّا،فستعتبر تلك التجربة الغنية نقطة تحول مفصلية في حياته،وسيواصل مسيرة أحلامه حتى تحين ساعته،وأما من عاد شهيدا،كجاسر وذيب،رحمهما الله،فقد اختصر الزمن،والمقاييس الدنيوية،ومتابعة الحلم،وقطف المجد ونال الفخر مبكرا،واختار-بقدر الله-الشهادة من أجل أن تحيا نفوس بشرية أخرى،ففاز بالحياة الباقية،إن شاء الله،ومن لم يمت بالسيف مات بغيره،تعددت الأسباب والموت واحد،والأرواح جنود مجنّده،ماتعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف،وما أكثر ائتلاف القلوب في تلك البلاد البعيدة المختلفة في كل شيء.

من جرب الذهاب لتلك البلاد البعيدة،الغريبة،ولفحه صقيعها،وهجيرها،وعواصفها المطرية والثلجية،وعانى فيها مرارة الابتعاد عن الأهل والأحبة والشوق لهم،وواجه الصعاب والتحديات،والخوف،ورسم الأحلام بلا حدود،والسير وحيدا على الأرصفة في الليالي الموحشة،والتفكر في المارّة والعابرين،وآمالهم،وآلامهم،ووحدتهم،والتنقل بين المدن والبلدات ومحطات القطارات،ومشاهدة المشردين في الشوارع والأزقة والزوايا،متكورين على أنفسهم لايعبأ بهم أحد.

من جرب الإقامة في تلك البلاد البعيدة جدا،وخبر النظام والإنضباط والصدق والامانة ومساعدة الآخرين،سيشعر بالإنعتاق من كل العوائق السلبية التي كبلت شعوبنا وشبابنا ردحا من الزمن ومازالت،وسيعرف ماذا يعني احترام المسؤول والمواطن للقانون،وسيعلم يقينا أن لا فرق بين وزير وخفير وأمير .

ومن جاب تلك البلاد عرضا وطولا،سيعرف أن الطائفيين والعنصريين وعديمي الأمانة والتكفيريين واللصوص وسراق المال العام بأنواعهم وأشكالهم يقبعون في السجون وينالوا عقوبتهم الرادعة ويمنع شرورهم عن المجتمع ولا يسرحون ويمرحون جهارا نهارا دون حسيب أو رقيب ولهذا يعيش العربي والمسلم هناك حراً كريماً شجاعاً منتجاً وفاعلاً ومُبدعاً.

من ذاق طعم الحرية في تلك البلاد سينطلق،كالصاروخ،في كل اتجاه،متحرراً من كافة عُقُلِه وعقده،وسيكتشف نفسه من جديد،وستتفجر مواهبة المدفونة في اعماق أعماقه،وسيبذل الكثير والكثير جدا في فعل الخير والفعل الإنساني بشكل عام،وسيصاب بالذهول ممايكتشف لديه من قدرات ومهارات وافكار ومبادرات وإيجابيات لاتنقطع.

ثم بعد أن تسمو نفسه وعقله على كل الصغائر الدنيوية،ويصبح في قمة الشفافية والعطاء للآخر(الإنسان)،وبعد أن تتجسد فيه مقولة الإمام علي عليه السلام،إما أخ لك في الدين،أو نظير لك في الخلق،اقول،بعد الوصول بالنفس لهذه المرحلة،يصبح ماقام به جاسر وذيب من تضحية وفداء أمراً طبيعياً،انسانياً،فطرياً،وملائكياً،فرضته الطبيعة السوية للإنسان الخيّر.

اقول،من جرّب وشاهد وعاش كل ذلك في بلاد الإغتراب البعيده،يعرف كم هو مؤلم ويدعو للحزن أن تسقط شهيدا في أرض غريبة.

ولكن من جانب آخر،يعرف ايضا أن تلك الأرواح المهاجرة العظيمة،الباحثة عن العلم والتعلم،واكتشاف الآخر،وتبادل المعرفة والثقافة معه،حتى وإن غابت جسدا،وسقطت أحلامها الدنيوية،إلا أنها،بنيلها الشهاده،ارتقت في الأعالي لتجسد أروع صور ومعاني الإيثار والتضحية والرقي الإنساني في أعظم تجلياته،وتكون جسرا متينا وقويًّا ورابطا أبديا بين حضارتين وثقافتين وديانتين وبشر مختلفين في كل شيء إلا في المشتركات الإنسانية الكبرى التي تجمع الناس مع بعضهم البعض .

بالإذن من الشاعر الكبير،ايليا ابوماضي،سأخاطب،بتصرف،روحيّ الشهيدين،جاسر وذيب،فأقول لهما كما قال الشاعر ابوماضي لأهله في الغربة:-

(نجران)لا تعذل بنيك أذا همُ
ركبوا الى العلياء كل سفينِ
لم يهجروك ملالة ..لكنهم
خلقوا لصيد اللؤلؤ المكنونِ
لما ولدتهمُ نسوراً حلقوا
لا يقنعون من العُلا بالدونِ
الأرض للحشرات تزحف فوقها
والجو للبازي والشاهينِ.

نسأل الله العلي القدير أن يرحم جاسر وذيب وجميع موتانا وشهدائنا،وأن يلهم أهلهما وذويهما الصبر والسلوان والثبات،وأن يحسن عزاء نجران وأهلها كافة،والشعب السعودي،ووطننا الأبي،إنه سميع مجيب.

*

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى