أدب وثقافة

صنّفت مدينةً تجاريةً على طريق البخور.. رحالة أوروبيون يوثقون تاريخ نجران بنقوش الأخدود

إعداد: عبد المحسن زبارة – تصوير: صالح الدغاري

زيارة موقع الأخدود الأثري بنجران تجربة لا تُنسي، تعيد السياح لتاريخ يمتد لمئات السنين، وتمنحهم فرصة للتعرف على التاريخ، والتأمل والاستكشاف، بل وابتكار أعمال فنية وأدبية، مستوحاة مما يحتويه المكان من صخور وتشكيلات عجيبة تحمل نقوشاً ورسومات تبرز أسرار وكنوز حضارات قديمة وتراثاً ثقافياً استوطن المكان.
هذا الموقع، كانت تقف عليه مدينة نجران القديمة التي ورد ذكرها في نقوش جنوب الجزيرة العربية بحروف (ن ج ر ن)، كنموذج للمدن المميزة للحضارة في الجزيرة العربية، ومن أهم المحطات التجارية على طريق التجارة القديم.
ويتمثل الموقع في مدينة مركزية يحيط بها سور بطول 235م، وعرض 220م، وفق نظام تحصين كان معمولاً به في مدن جنوب الجزيرة، ويحتوي على نتوءات وتجاويف عشوائية وغير منتظمة بمساحات متفاوتة.
المباني في مدينة الأخدود الأثرية، أساساتها من الأحجار المنحوتة بارتفاعات من 2 إلى 4 أمتار، ويشكل الحصن العنصر الأبرز في الموقع، إذ يعود تاريخه إلى الفترة الممتدة من منتصف القرن الأول قبل الميلاد وحتى منتصف الألف الأول الميلادي، وهي فترة الاستيطان الرئيسية للموقع.
وفي داخل الحصن تنتشر مجموعة كبيرة من المباني التي تتفاوت حالاتها من حيث درجة تأثير عوامل التعرية والزمن عليها، وبنيت أجزاؤها السفلية من كتل حجرية منحوتة على شكل واجهات مستطيلة أو مربعة بأحجام متفاوتة يبلغ طول واجهات بعضها نحو 350 سم، أما الأجزاء العلوية من هذه المباني على الأرجح، فكانت مبنية من الطين اللبن أو الطوب واللبن، وفي خارج السور تنتشر تلال أثرية تحتوي على أساسات مبانٍ من الحجر والطين.
ويحظى موقع الأخدود الأثري كغيره من المواقع الأثرية بالمملكة، باهتمام وحرص من قبل المسؤولين بالإدارة العامة للآثار في هيئة التراث بوزارة الثقافة، عبر إظهار القيمة التاريخية والأثرية للموقع من خلال إجراء أعمال المسح والتنقيب الأثري، التي انطلقت منذ عام 1399هـ/1979م، وكانت بدايتها بإجراء مسح أثري، ثم تلته مواسم التنقيب الأثري، لتتحقق نتائج ملموسة من أهمها الكشف عن عدد من الوحدات المعمارية المختلفة في أسلوب بنائها.
وكشفت أعمال التنقيب الأثري في الجهة الشمالية الشرقية من الموقع عن أقدم مسجد في منطقة نجران، كما تم العثور على جرة فخارية مليئة بالعملات الفضية “كنز نجران”، وتبين من خلال تنظيف بعضها أنها تعود إلى الملك القتباني (يدع أبينف) الذي حكم في النصف الثاني من القرن الأول الميلادي، وعثر في الموقع على أوانٍ فخارية عبارة عن جرار وأطباق وطاسات وأباريق، كما عثر على أجزاء من أوانٍ صنعت من الفخار.
كما أثمرت أعمال المسح والتنقيب الأثري بالموقع عن العثور على أوانٍ نحتت من الحجر الصابوني والرملي مثل المباخر والأحواض، وأجزاء من التماثيل لحيوانات صنعت من المعادن، وألواح معدنية عليها كتابات بارزة بحروف المسند الجنوبي تتضمن نصوصاً دينية تعبدية، ومسلات من الأحجار كتبت بالقلم المسند، وتتحدث عن تشريعات دينية، إضافة إلى العثور على خواتم من الذهب لأول مرة تظهر في موقع الأخدود، لكل خاتم منها فصّ ذهبي على شكل فراشة وله قفل صغير لربط طرفه.
وذكر أستاذ التاريخ المشارك بجامعة نجران عوض بن عبدالله العسيري، أن أكثر من مؤرخ وبلداني مثل الهمداني والبكري، ذكروا أن موقع مدينة الأخدود لم يكن سوى مدينة نجران القديمة وسوقها التجاري الواقع على طريق القوافل التجارية القديمة، قبل أن تندثر في القرن الرابع الهجري وتنتقل إلى مكان آخر قريب، حيث وردت أول إشارة لذكر هذه المدينة قديماً في النقوش الأثرية بـ”ن ج ر ن” عام 680 ق.م.
وأضاف العسيري: ورد اسم نجران مرة أخرى في نقش آخر يعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد، حيث يشار إليها كاسم لقبيلة تسكن أرض نجران، ثم يرد في نقش ثالث من القرن الثاني الميلادي كاسم لـ”مدينة ظربان وواديها نجران”، وفي نقش “النمارة” الشهير بجنوب دمشق، ترد إشارة مهمة إلى نجران عام 328م.
ولفت إلى أن ذكر نجران لم يقتصر على النقوش، فقد أشار إليها عدد من المؤرخين والجغرافيين الكلاسيكيين مثل “سترابون”، و”وبليني”، وبطليموس في كتابه “الجغرافيا” أثناء استعراضه لأهم المدن الواقعة على طريق البخور القديم إلى بلاد العربية السعيدة، أي جنوب الجزيرة العربية، وفي التاريخ الحديث، حظيت منطقة الأخدود الأثرية باهتمام عدد من الرحالة الأوربيين الذين زاروها ووثقوا بعض نقوشها ونقبوا في آثارها ووثقوها في أعمال ترجم بعضها إلى اللغة العربية ومنهم على سبيل المثال لا الحصر “جوزيف هاليفي”، و “جون فيلبي”، و”فيلبيب ليبينز”.
بدوره أكد الرئيس التنفيذي لجمعية الآثار والتاريخ بنجران نايف بن حمد مسلم، أن مدينة نجران التي تقع في الجزء الجنوبي الغربي من المملكة العربية السعودية على الأطراف الشرقية من الدرع العربي؛ تعد أحد أقدم المناطق الحضارية على مستوى الجزيرة العربية، كمركز تجاري مهم، نظراً لوقوعها على مفترق الطرق القادمة من الجنوب والمتجهة نحو الشمال والشرق.
وأضاف: تمتد أصول حضارة نجران حسب آخر الاكتشافات الأثرية إلى العصر الحجري القديم الأعلى، كإحدى المدن التجارية المهمة التي ازدهرت في بداية الألف الأول قبل الميلاد، وشهدت فترات استيطان طويلة، وتشتهر بالعديد من المواقع الأثرية كمنطقة حمى الثقافية، وموقع الأخدود الأثري، كعوامل جذب سياحية وثقافية للمنطقة ومحفزة للإبداع والتطوير للإسهام في النمو السياحي والثقافي والاقتصادي لتحقيق رؤية 2030.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى