كتاب أخبارنا

لـمعلمي العطر ..

 

 

في مدرسة قريتنا النائية (القرن) يدخل معلمنا الشاب حديث التخرج،يدخل بمعية ابتسامة سخية،يسابقه شذى عطره الفواح،يلقي التحية باسما و يستوي على كرسيه،ينظر إلينا واحدا واحدا،ثم يسأل كل واحد منا عن اسمه،و كان حظي أن أكون المجيب الأول فأجيب:

أ لا تعرفنا و نحن أبناء قبيلتك! ينفجر ضاحكا و يجيب:
“بلا،و لكني أحب أن أسمع الاسم من صاحبه”،نمضي يوما أولا سعيدا بصحبة معلمنا الأنيق.
تمر الأيام و أنا أحاول أن أكسب رضا معلمي الذي ما فتيء يشيد به،تمر الأيام عجلى حتى يحل يوم إعلان النتيجة _نهاية الفصل_ ليدعوني مباركا بابتسامته اللطيفة الساحرة:
“مبروك يا ناجي! الأول على الفصل” ،يا إلهي! صوت الدهشة في أعماقي يصرخ؛لا فرحا بالنتيجة فحسب،بل و لرضا أستاذي العزيز،كان رضاه عني يفوق ما حصدته من درجات.
أمضي ذلك الفصل لأنتقل مع أسرتي إلى مدرسة أكبر في قرية تفوق قريتنا مساحة و سكانا.و
في القرية الكبرى يواصل التلميذ طريقه ليتفوق على أبناء القرية الجديدة،أعود لقريتي الأم فأقابل أستاذي الذي لا يوازيه في قلبي معلم آخر،يسألني هو واصلت تفوقك،لأخبره:نعم,بذات النتيجة لكن مع معلم لا يشبهك،يبتهج معلمي و ابن قبيلتي و يهديني ابتسامته اللطيفة،ثم يرد:
“هل تعلم يا ناجي؟! أن موجه المدارس سألني بعد انتقالك:لماذا أعطيت الطالب الفلاني الدرجة الكاملة في كل المواد؟ فأجيبه:”لو كانت هناك درجة فوق الكاملة لوهبته إياها”يقولها و أنا أحيا شعورا طفوليا لا حدود له بهجة و فرحة بمشاركة أستاذي لي تلك اللحظة الثملى بالافتخار و الانبهار،إذ قد رأيت في معلمي من العدل و الدعم ما لا أظنه في معلم آخر،و هو_ بالفعل_ ما عشته بعده مع معلمين أفاضل و إن اقترب بعضهم من قدره في قلبي كأستاذ العربية الكريم(سليمان أبو جزر)الذي تنبأ أن أكون كاتبا مختلفا رغم أني وقتها لم أع ماذا يعني بالكاتب!كان يستعرض ما أكتب لموجه العربية القدير الشاعر العربي(أ.محمود مفلح)،إذ كانا يعقدان الجلسات لأجل ما أكتبه في مادة التعبير(كما يخبرني معلمي الفاضل أ.سليمان).

أعود لمعلمي ،الذي غادر لبريطانيا بعد ثلاث سنوات من فراقنا،غادر ليدرس اللغة الإنجليزية،فكان من حبي له أن عكفت على القراءة في المكتبة المتواضعة للمدرسة علي أجد ذكرا لبريطانيا و أسكوتلندا و عاصمتها أدنبرا تحديدا،لم أفلح في الحصول على معلومات تشبع تطلعي،و أعود أنتظر رجوعه بشهادته،يعود أستاذي و أقابله و أبناء القرية استقبال الأبطال،و كان بطلا بحق،عاد متفوقا يتحدث الإنجليزية بطلاقة،لكني كنت حينعا خجولا أن أقابله بلهفة حقيقية،و ذلك أن أتربة القرية تترك بصمتها على الوجوه و الأردية ما يترك انكسارا خفيا في قلب صغير يكره الهزائم المعنوية ،عاد معلمنا بابتسامته اللطيفة، و كنت ظننته قد نسي القرية و أهلها،و ما إن انفرد بي حتى استفاض بالحديث عن طلاب بريطانيا،فعلمت أنه قد وجد طلابا أكثر ذكاء و ألمعية من ابن قبيلته و قريته الفقير،لم يطل خيالي حتي التفت إلي يعيد قصة موجه المدارس و إجابته له،ليعود الفرح لقلبي الصغير أسرابا من البهجات و عيناي تغرورقان بالدمع سرورا و حبورا.
يعود معلمي الفاضل للعمل في المدينة سعيدا يحيا حياته،و أنا أصارع المتنافسين في المدرسة تارة و في الرياضة و الخط العربي تارة أخرى.

في كل تلك السنين لم أنس رائحة معلمي المتمثلة في عطره الشذي الذي عرفته به،و بعد سبع سنين من فراقنا الأول؛يحل ضيف عزيز على أبي الكريم(رحمه الله و أمواتكم),و ما إن اقترب حتى شممت رائحة أستاذي فيه لأبادره:عمي محمد،ما اسم هذا العطر؟ليجيب:”الياج….الياج”يقولها و الدهشة تكسو وجه أبي الجميل،و ما علم أبي الكريم و ضيفه العزيز أني وجدت ضالتي(بعضا من ذكرى أستاذي).

و بعد أربع سنوات أخريات أجد المال و أذهب لمدينة أبها أشتري عطر أستاذي”الياج”ثم أعود للقرية بسري الأخاذ ليشمه ابن عمي الأثير و رفيق دربي(أ.حيدر بن علي):”الله يا أبو مهدي!,إيش اسم ذا العطر؟”,”الياج يا أبو علي”،يطلب مني أن نسافر ليشتري زجاجة من ذات العطر و من ذات المكان،أخي حيدر اشترى العطر لشذاه و أنا اشتريته محبة في أستاذي،الذي ربما اشترى العطر لشذاه .
تمر السنوات و تتوطد العلاقة أكثر بين أخ صغيره و أخ يكبره بعض العمر و كل القدر،لكن تلك العلاقة تظل داخلي علاقة تلميذ بمعلم زرع فيه الثقة و منحه التشجيع و الإشادة،ليبقي داخلي أمل التفوق و إن رحل العمر،أو ذبل الزهر،أو جف النهر،يظل داخلي معلما أحببته تقديرا و أحترمته واجبا،و عجزت أن أفيه حقه من الشكر و طيب الذكر،فله مني الدعاء أقل واجب للوفاء لمعلم كان مثالا للصفاء و النقاء و الإخاء _يومنا هذا_ في الله تعالى مخلصين له الدين حنفاء,أدام الله الوفاء رمزا للشرفاء،”و لا نامت أعين الجبناء”

معلمي العطر
أ.علي بن مسفر ابن فاران

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى