كتاب أخبارنا
أخر الأخبار

كتابة التاريخ … مشي على الشوك..!

 

قيل أن التاريخ لايرحم ولا ينسى بينما المؤرخ يرحم وينسى،كما أن البعض ينظر للتاريخ نظرة الشاعر عندما قال:
“وما كتب التاريخ في جُل ماروت
لقرائها الا حديث ملفق
نظرنا بأمر الحاضرين فرابنا
فكيف بأمر الغابرين نصدق”؟!!

بينما البعض الآخر يرى أن”التاريخ يكتبه المنتصرون”،فيما يرى البعض الثالث أن معرفة التاريخ ضرورة ملحّة حيث تستلهم منه العظات والعبر ويستفاد منه للتخطيط للمستقبل فربما”يعيد التاريخ نفسه”كما يقال.

يطول الحديث في هذا الأمر بين مكذبٍ ومصدقٍ للتاريخ ولكن الناس في الأغلب الأعم لديهم حنين إلى الماضي وتوق لمعرفة ماجرى للأمم السابقة وماذا حدث للآباء والأجداد وكيف عاشوا وواجهوا المصاعب وماذا صنعوا في تلك الأوقات البالغة الصعوبة والشدة والشح.
وقد يسأل أحدهم:ماذا لو اكتشفت أن تواريخ أجدادك وأسلافك تواريخ مخجلة؟
ماذا لو ظهر لك في هذا العصر التقني بامتياز وثائق تاريخية موثوقة تتضمن أن جدك كان بكلامنا الشعبي الدارج:”ما يسوى التالية من الغنم”؟!

أو أنه كان رجلًا جبانًا أو بخيلًا أو انتهازيًا أو ليس لديه مبادئ سامية أو خصال حميدة كما كنت تعتقد ؟
هل ستقوم بنشر ذلك على الملأ وتطلع الآخرين عليه وتحثهم على ترويجه والتعريف به أو أنك ستبذل كل الجهود لطمسه وإخفائه ؟

ثم ماذا سيكون موقفك لو تطوع مؤرخ ما ونشر كل هذا دون موافقتك أو رغبتك؟!

أظن أن الإجابات على تلك الأسئلة السابقة معروفة ومحسومة سلفًا وبخاصة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي تتحسس كثيرًا من التاريخ وكتابته ومفاجآته ونشره بينما الوضع في الغرب مختلف إلى حد كبير حيث تجاوزوا هذه المعضلة كثيرًا وتلك الحساسيات وتناولوا تاريخهم بطرق نقدية موضوعية وعلمية ومن وجهات نظر وزوايا مختلفة بالرغم من أنه مازال لديهم بعض (التابوهات)التي لايستطيعون نقاشها أو التطرق إليها كما يجب.

من ذلك مثلًا قضية(الهولوكوست)ونقد دولة اسرائيل وتاريخها العنصري وتطرفها،وقد تم مهاجمة وعزل ونبذ كل من حاول إعادة كتابة تاريخ مثل هذه القضايا ومنهم على سبيل المثال لا الحصر الدكتور جون ميرشايمر، أستاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاغو والدكتور ستيفن والت من كلية كيندي للشؤون الحكومية بجامعة هارفارد اللذين توصلا في دراسة لهما أن اللوبي الموالي لاسرائيل في الولايات المتحدة إستطاع تاريخيًا أن يقنع المسؤولين الامريكيين وأعضاء الكونغرس بأن عليهم تأييد اسرائيل بشكل مطلق حتى وإن تعارض هذا التأييد مع المصلحة الوطنية الأمريكية، وقد حدث ذات الأمر للمفكر الفرنسي الشهير روجيه جارودي الذي حوكم لأنه انتقد إسرائيل من الناحية التاريخية وكيف استغلت جرائم النازية في الحرب العالمية الثانية ضد اليهود لتغطي على جرائمها في البلدان العربية لاحقًا.

هذه الأيام تخرج علينا بين الفينة والأخرى حسابات عبر منصات التواصل الاجتماعي تزعم اهتمامها بالتاريخ بشكل عام وتاريخ الجزيرة العربية وتحديدًا جنوبها ونجران على وجه الخصوص،والملاحظ أن هذه الحسابات ليست لها سياسة واضحة ومحدده ،فمرة تراها كحاطب ليل تخبط خبط عشواء وتخلط الحابل بالنابل والغث بالسمين،ومرة تجدها أشبه بمناكفات المراهقين ونقاشاتهم في المقاهي حول انديتهم المفضلة التي يشجعونها في كرة القدم.

ومرة ثالثة تجد أن لديهم بالفعل وثائق جديدة ومواد خام تاريخية مهمة وكأنهم وقعوا على كنوز في مكان ما لم تُعرف أو تنشر من قبل لكن المشكلة تكمن في عدم معرفة هؤلاء بتقديم وتناول هذه الوثائق وهذه المعلومات بطريقة علمية وفقًا لظروف وعصر وحيثيات الفترات التاريخية التي تتحدث عنها.

بمعنى آخر بعض هذه الحسابات لديه أو وقع على جواهر ثمينة من المعلومات والوثائق التاريخية المهمة جدًا لكنها جاءت لسوء الحظ في(يد فحام)حتى وإن تدثر أصحابها بعباءات العصرية ومعرفة اللغات الاجنبية والجدل العقيم الخالي من المعرفة والفائدة،ويمكن بسهولة ملاحظة أن بعض القائمين على هذه الحسابات التي تتخذ مسميات تاريخية ليسوا مؤرخين متخصصين وإنما هواة في التاريخ وعابري سبيل لديهم ثروة أكبر مِن احتمالهم وقدرتهم على إدارتها.

أخيرًا ولأننا في عصر مفتوح على مصراعيه تتدفق فيه المعلومات من كل حدب وصوب لم يعد ممكنًا تقفيل الأبواب تمامًا ومحاولة تكميم الأفواه وشيطنة الاشخاص والمطالبات بمنع النشر تماماً بحجة “إثارة الفتنة” أو “أنه ليس وقته” أو إطلاق الاتهامات وتبادل السباب والشتم المؤذي لكل الأطراف،بل في رأيي أن الطريق المثلى للتعامل مع ما ينشر من معلومات تاريخية جديده وربما صادمة أحيانًا هو أن يقوم متخصصين في التاريخ برصد وتناول ما يطرحه(المؤرخون الجدد)أو (أدعياء التاريخ)ونقده وتهذيبه وتشذيبه وتفنيده ووضعه في إطاره التاريخي وظروفه التي نشأ فيها ثم تقديمه من جديد للقراء بطريقة موضوعية علمية يفاد منها الجميع وتغطي بالفعل تلك الفترات الزمنية التي لم يقم بتغطيتها المؤرخين أو ما أهمله التاريخ…وكما قيل:”تاريخ كل أمة خط متصل، قد يصعد الخط أو يهبط،وقد يدور حول نفسه أو ينحني و لكنه لا ينقطع”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى